ما بين الدراجة والدفتر: كيف يتعلّم الهولنديون؟
في صباح هادئ من صباحات أمستردام، وبين القنوات المائية والدراجات التي تملأ الشوارع، جلست أراقب الناس من حولي. كانوا يقفون أمام المقاهي أو في طوابير المتاحف، مبتسمين وهادئين، لا يتشاجرون على المقاعد ولا يستعجلون دورهم. كل شيء كان يبدو بسيطًا وسلسًا، لكن خلف هذه البساطة كانت هناك طريقة تفكير مختلفة، تقوم على الهدوء، والنظام، واحترام الوقت والمساحة
في الحقيقة, كنت أظن أن هذه السمات مجرد انعكاس للحياة الهولندية اليومية، إلى أن زرت إحدى المدارس، حيث بدأت أكتشف أن هذا الأسلوب ما هو إلا طريقة حياةٍ وفلسفة تعليم
من داخل الفصل الهولندي... بدأت أُراجع نفسي
داخل جولة تعليمية قصيرة، التقيت بأستاذة جامعية – على فكرة هي من بادرت بمحادثتي لأنها سمعتني أتكلم بالعامية المصرية مع صديقة- شرحت لي نقطة غيّرت نظرتي. قالت: "عبير إذا شعر الطالب هنا بالملل، أو لم يجد نفسه في النظام، سيتسرّب من المدرسة. وهذا يعني أحد الوالدين سيتعطّل عن العمل، ويتحوّل الطفل إلى عبء وقد يلجأ الى المخدرات. لهذا نغيّر المناهج تقريباً كل خمس أو ثماني سنوات."
هذه النظرة المنهجية العميقة للعلاقة بين المدرسة والمجتمع، لم أسمعها من قبل بهذه الصيغة، رغم سنواتي الطويلة في تعليم العربية للناطقين بغيرها. لكنها كانت اللحظة التي بدأت فيها أستعيد مشاهد من تدريسي السابق لطلاب من أندونيسية، الذين كنت أدرّسهم دون أن أعرف أن خلفياتهم التعليمية متأثرة بالنموذج الهولندي نفسه! (فقد كانوا تحت الاستعمار الهولندي لما يقارب 360 سنة)
في ضوء هذه الرحلة، فهمت لماذا كانوا يبرعون في المشاريع، والعروض التقديمية، والتصوير، ويُظهرون حبًا حقيقيًا للتعلم التفاعلي أكثر من التلقين. كنت ألاحظ هذه الأشياء، لكني لم أربطها بسياقها الثقافي إلا عندما زرت هولندا ثم طلبت بعض طلابي الاندونيسيين لأستفسر منهم عن بعض الأشياء
تعليم لا يشبه تعليمنا
ما لاحظته أن الطلاب في هولندا – ومن تأثرت أنظمتهم بها مثل أندونيسية وسورينام – لا يتعاملون مع الخطأ على أنه فشل، بل جزء من التعلم. أحد الشعارات المعلّقة في مدرسة ابتدائية تقول ببساطة:
“Fouten maken mag. Zo leer je het beste.”
"من حقك أن تخطئ، هكذا تتعلّم أفضل."
التعلم هناك لا يقوم على الحفظ، بل على التجربة. لا يُقاس الفهم باختبارات تقليدية، بل بمشاريع عملية. وهذا يتوافق تمامًا مع فلسفة "التعلم البنائي" (constructivist learning) التي تجعل من الطالب شريكًا في بناء المعرفة، لا مجرد متلقٍ سلبي
في تعليم العربية للناطقين بغيرها، نتعامل مع طلاب قادمين من خلفيات متنوعة ثقافيًا وتعليميًا. وهذا يعني أن نجاحنا لا يرتبط بمهاراتنا في الشرح فقط، بل بقدرتنا على فهم كيف يتعلّم هؤلاء الطلاب. لا يكفي أن نطبّق طريقة واحدة للجميع. فطالب من خلفية هولندية أو إندونيسية لا يتعلّم بالطريقة نفسها التي قد يتعلّم بها طالب من خلفية تركية أو بوسنية أو هندية
وهنا أرى أنّ مسؤوليتنا كمعلّمين هي أن ندمج بين معارفنا وبين بيئات طلابنا، فنصمم دروسًا تعكس واقعهم، وندفعهم لاستخدام اللغة العربية في الحديث عن عالمهم هم: عن دراجاتهم، حدائقهم، حيواناتهم الأليفة، وحتى عن مشاريعهم المستقبلية. أتذكر عندما كنتُ في إندونيسيا، وشاهدتُ لأول مرة النساء وهنّ يقدن الدراجات النارية في الشوارع جنبًا إلى جنب مع الرجال، دون حرج أو تردد عبّرت لي بعمق عن حضور المرأة في الحياة العامة هناك. ايضاً لاحظت كيف تتحدث النساء مع الرجال بأريحية، كما لو كانوا إخوتهم هذا أثّر على طريقة تدريسي ,فحين أتناول موضوعات تتعلق بالأدوار الاجتماعية أو الحوار أو العادات، أصبحتُ أكثر وعيًا بثقافة الطلاب وأحرص على اختيار أمثلة تناسب خلفياتهم
وأخيراً, فالخروج من القاعات إلى الشوارع، من الكتب إلى المقاهي، ومن النظريات إلى المشاهد اليومية، أعاد إليّ فهمي الحقيقي لمفهوم "اللغة" و"التعلم". فالتعليم ليس فقط نقل معلومة، بل بناء علاقة بين المعنى والواقع، بين الطالب والمعلم، بين ما ندرّسه وما نعيشه