"العربية في عيون الإندونيسيين: لغة تُعاش لا تُدرَّس فقط… بين الحفظ والإبداع"
عندما زرت إندونيسيا قبل ما يقرب من ست سنوات، لم تكن زيارتي مجرد رحلة أكاديمية، بل كانت نافذة على روح شعبٍ تعلّم كيف يجعل من اللغة العربية أكثر من مادة دراسية؛ بل تجربة إنسانية تُعاش. أكثر ما رسخ في ذاكرتي كان جامعة دار السلام في غونتور، حيث التقيت بالطلاب والطالبات وألقيت محاضرات، فوجدت فيهم صورة مدهشة لعلاقة الأخوة والمودّة التي تربط بين الذكور والإناث، علاقة قائمة على الاحترام والدعم المتبادل، وكأنهم بالفعل أسرة واحدة
هذه الروح لا تقتصر على الحياة الجامعية داخل بلادهم فقط؛ بل تمتد حتى عندما يسافرون للدراسة في الخارج. فالطالب الإندونيسي لا يكون وحيدًا: إذا مرض أحدهم، وجد زملاءه حوله يعتنون به، وإذا استعصى عليه أمر في المذاكرة، وجد العون من إخوته وأخواته. هذه الثقافة العميقة تجعل من الصف الدراسي مساحة تضامن، لا منافسة
إلى جانب ذلك، فإن الطلاب الإندونيسيين نادرًا ما يلتحقون بالفصول المبتدئة عند دراستهم للغة العربية في الخارج، فهم غالبًا يبدأون من المستويات المتوسطة أو المتقدمة، بحكم أنهم درسوا العربية منذ الصغر في مدارسهم. كثير منهم يتقن تلاوة القرآن الكريم، ويملك مخزونًا واسعًا من المفردات والقواعد، وهو ما يجعلهم أكثر جرأة في الكلام وأسرع استجابة في فصول النحو والمحادثة. وقد لا يُخفون ميلهم للحفظ والتلقين، لكن ما إن يجدوا أستاذًا يفتح لهم أفق الإبداع ويمنحهم مساحة للتعبير، حتى يبدعوا في العروض، والأفلام القصيرة، والمشاريع الرقمية
تجربتي مع طلاب إندونيسيا علمتني أن النطق لديهم مميز وواضح نسبيًا، وأنهم يمتلكون حسًّا لغويًا شاعرًا يجعلهم أحيانًا يبتكرون تراكيب غير مألوفة، فقط ليبهروا معلمهم. أحد الطلاب وصفني يومًا بقوله: "أنتِ مثل النجم المتلألئ في سقف هذا الفصل"، في تعبير يختزل خيالهم وذائقتهم الخاصة
كنتُ في بداية كل أسبوع أسأل طلابي الإندونيسيين عمّا فعلوه في عطلة نهاية الأسبوع، لأكتشف شيئًا مدهشًا عن مجتمعهم: كثيرًا ما كان الجواب أنهم قضوا وقتهم في تعليم الأطفال أو طلاب المدارس في قراهم العلوم أو اللغة العربية أو حتى دروسًا دينية مبسّطة. هذا جعلني أعي أن في ثقافتهم التعليمية قيمة راسخة تتجاوز حدود قاعة الدرس، حيث ينظرون إلى العلم بوصفه مسؤولية اجتماعية قبل أن يكون إنجازًا فرديًا. ولم يكن ذلك مجرد مبادرة شخصية، بل جزءًا من نظام تعليمي متكامل مثل برنامج KKN (خدمة الدراسة المجتمعية)، الذي يُلزم طلاب الجامعات بقضاء سبعة إلى ثمانية أسابيع في القرى الريفية لتعليم السكان والمساهمة في تنمية المجتمع. في تلك اللحظات، أدركت أن الطالب الإندونيسي لا يعيش العلم لنفسه فقط، بل يراه رسالة يشاركها مع غيره. هكذا تصبح اللغة والمعرفة جزءًا من نسيج حياتهم اليومية، وليست مجرد مادة في الكتب
رغم ذلك، يبقى تعليم العربية في إندونيسيا أمام تحديات معاصرة: المناهج التقليدية، ضيق الوقت، والاعتماد على أسلوب المحاضرة. إلا أن التوجهات الحديثة نحو "التعلم النشط" ودمج الأدوات الرقمية في المناهج تسعى إلى تجاوز هذه العقبات، وهو ما يفتح الباب أمام معلم العربية لخلق بيئة تعليمية ممتعة وتفاعلية
الطالب الإندونيسي يعلّمنا درسًا بليغًا: أن اللغة لا تُحفظ فقط، بل تُعاش. وأن الأخوة، والاحترام، والدعم المتبادل قد تجعل من صف اللغة فضاءً إنسانيًا حيًّا قبل أن يكون أكاديميًا. ولعل هذا ما يجعل العربية في عيونهم أكثر من حروف وكلمات؛ إنها جسر يصلهم بالعالم، وبأنفسهم، وببعضهم البعض